في عالم مليء بالمشتتات الرقمية والضغوط اليومية، أصبح من الصعب الحفاظ على تركيزنا الذهني وعلى اتصالنا العميق بأنفسنا وبعالمنا الحقيقي. نغرق في تفاصيل الحياة الرقمية التي تستهلك وقتنا وتفكيرنا، مما يعزلنا عن فرص التفكر الحقيقي والإبداع. لكن هناك طريق آخر، طريق يعيدنا إلى التوازن، حيث يمكننا أن نستعيد السيطرة على عقولنا وقلوبنا ونوجهها نحو الأهداف التي تهمنا.
هذا الكتاب هو دعوة لك للابتعاد عن الزخم الرقمي والتكنولوجيا التي تملأ يومنا، وعودة إلى جوهر الإنسان – العقل المتأمل، الفكرة الإبداعية، والإنجاز المبدع. هنا، ستجد خطوات عملية تساعدك على تقوية قدرتك على التركيز، وتحرير نفسك من التشتيت، بل وتفعيل طاقاتك الداخلية التي تقودك نحو التميز الشخصي والمهني. إذا كنت تبحث عن استعادة نقاء ذهنك واستعادة التوازن في حياتك، فهذا الكتاب هو دليلك إلى عالم من الانسياب المثمر الذي يثمر أعمالك وأفكارك على نحو جديد ومختلف.
للإستماع للملخص من هنا:
لتحميل الملخص pdf من هنا:
تغيير الوسيط
يغيّر المحتوى.
نشر الدكتور
"مارشال ماكلوهان" قبل نصف قرن من الزمان كتابًا بعنوان: "فهم الإعلام كامتداد للإنسان"، فتحوّل من أكاديمي
مغمور إلى نجم مشهور، بعد أن بيّن أن الوسيط الكهربائي يسبّب تشتتًا واضطرابًا في
العقل البشري، الذي جعل أجهزة التلفاز والراديو والهاتف تأخذ مكان العقل وتحتل
حيزًا فيه.
أشار
"ماكلوهان" إلى أنه كلما اخترع الإنسان وسيطًا جديدًا، انشغل بالمحتوى
الذي يحمله؛ فالناس يهتمّون بالأخبار الجديدة في الصحف، وبالموسيقى في الإذاعة،
وبالأفلام على شاشة التلفزيون، ثم تتوارى وتختبئ التكنولوجيا الجديدة — مهما كانت
مدهشة — وراء ما يُقدَّم عبرها من معلومات وحقائق وترفيه وتعليم وألعاب وتسلية،
لأنها تستبدل أنماط الإدراك باستمرار ودون أي مقاومة من الإنسان.
وكما نرى اليوم،
فإن الإنترنت تقدّم وسيطًا جديدًا يعيد تشكيل المحتوى وفق نمطه اللاهث والسريع؛
فهي لا تذيب الشكل المادي للوسيط فحسب، بل تقسّمه إلى أجزاء قابلة للتعديل، وتحيط
به محتوى آخر من الوسائط التي استوعبتها وطرحتها ورسّختها، مما يؤدي إلى طغيان
الشكل على المضمون، ومن ثم تغيير طريقة استخدامنا وتجربتنا وفهمنا لذلك المحتوى.
"من
الممكن أن نفكر بعمق ونحن نتصفح الإنترنت، ولكن التكنولوجيا لا تشجع على التفكير."
فالمشكلة ليست في
استخدام الإنترنت الدائم فقط، بل في تقديمه لمحفزات حسية متكررة، تسبّب تغيرات
قوية وسريعة في الدوائر الكهربائية في الدماغ ووظائفه، مما يعني أن هذه الشبكة
العنكبوتية المتشابكة تُعد من أقوى التقنيات المسببة لتغيير العقل.
من التشابك إلى
الانسجام!
يحمل مصطلح
"التشابك" قدرًا من التعقيد والإلزام. فمنذ نعومة أظفارنا ونحن نحاول —
بعفوية — أن نطوّر قدراتنا المعرفية لتغذية عقولنا واستيعاب تطورات الأجهزة والنظم
الإلكترونية، ونعمد — بتلقائية — إلى استخدام التقنيات الحديثة لتوسيع وتعميق
مهاراتنا العقلية والجسدية.
قد نتخبط ونتشتت
بين هذه الأجهزة المتعددة أحيانًا، فإما أن نقع فريسة لها كما تقع الطيور في
الشراك، أو نتخذ منها وسائل دعم وبناء تثبت أقدامنا وتحقق أهدافنا في زمن التغيرات
المتلاحقة، فالقرار دائمًا لنا.
ينطوي
"التشابك" على العديد من الظواهر والمفاهيم التي تناولها العلماء بشكل
منفصل. وقد اخترنا هذا المصطلح دون سواه لعدة أسباب؛ أحدها هو اكتشاف ظاهرة "العقل المتمدد والمتغير" ليستقبل الجديد. وهو المفهوم الذي ابتكره
العالمان "أندي كلارك" و"ديفيد تشالمرز" ليعكس نوعًا من
التفاؤل المفرط.
فتوسيع القدرات
المعرفية أو الذاكرة من خلال التفاعل مع التكنولوجيا الحديثة يعطي انطباعًا
إيجابيًا لا تشوبه شائبة — الأمر الذي يحمل قدرًا هائلًا من المبالغة واللاواقعية.
في حين يُظهر مصطلح "التشابك" تأثر العلاقات الإنسانية بالوسائط
التكنولوجية، والتي تشمل أحيانًا جانبًا من التعقيدات.
فامتداد أو تمدد
العقل وتوسّعه للتكيّف مع المتغيرات قد يكلّفنا — في نهاية المطاف — الكثير،
ويحمّلنا ما ليس في صالحنا. لذا، لا نجد في علاقتنا بالعصر الرقمي، وتأرجحنا ما
بين التشابك والتمدد، ما هو إيجابي تمامًا أو سلبي تمامًا؛ فهي مسألة نسبية أولًا
وأخيرًا.
"أدويا" والعقل الإلكتروني!
على الضفاف
الغربية لمدينة كيوتو اليابانية، وبالقرب من منحدر جبل "أراشي
ياما"، تحظى قرود المكاك بشهرة واسعة جعلت من محميتها مزارًا يقصده
الكثيرون.
اشتهرت تلك القرود
بالخفة والمرح والمكر والدهاء، لأنها تجمع بين مهارات الذكاء العقلي والاجتماعي.
إلا أن ذكاءها لم
يضمن لها القدرة على التركيز والانتباه، فهي تهمهم وتصمت وتقفز من مكان إلى آخر
طوال الوقت، وكأنها تعيش في حالة متواصلة من التشتت والهذيان.
بالقرب من محمية
القرود، استضاف مختبر الروبوت والإلكترونيات في جامعة كيوتو إنسانًا آليًا متصلاً
بقردة تُدعى "أدويا"، لكنها لا تعيش في
اليابان، بل تقبع في معمل لتشريح المخ والدراسات العصبية في جامعة
"ديوك" بولاية كارولاينا الشمالية الأمريكية.
وقد تم وصلها
بالروبوت عبر الإنترنت، تحت إشراف العالم المتخصص في علوم الأعصاب "ميغيل نيكوليليس"، الذي يدرس المهارات التنفيذية وأثرها على
النمو العقلي.
قام الدكتور
نيكوليليس وفريقه بزرع شريحة إلكترونية في الجزء المسؤول عن تنظيم الحركة
في مخ "أدويا"، لتتعلم كيفية السير على جهاز الجري الرياضي، بينما تراقب
نشاط خلاياها العصبية خلال هذه العملية.
وكانت كلما
استجابت لأوامر زيادة أو تقليل السرعة، حصلت على مكافأة غذائية.
ثم زُوّد جهاز
الجري بشاشة أمامية تعرض بثًا حيًا لإنسان آلي يسير في مدينة كيوتو.
ومع تحرّك
"أدويا" على الجهاز، كانت الشريحة المزروعة في دماغها تستقبل الإشارات
من الأعصاب المسؤولة عن الحركة، وتنقلها عبر الإنترنت إلى الإنسان الآلي، الذي
يبدأ بدوره في تقليد حركتها.
وكلما زادت قدرتها
على التحكم في هذه الإشارات، وتوجيه الإنسان الآلي، كلما تضاعفت مكافآتها.
وبعد ساعة من
السير وتناول الحلوى، تم إيقاف الجهاز، فتوقفت "أدويا" عن المشي، بينما
استمر الإنسان الآلي في السير لبضع دقائق إضافية، بفعل تحكمها العقلي فيه.
بهذا أثبت العلماء
قدرة المخ على التحكم في الإنسان الآلي والعقل الإلكتروني عمومًا، بل
والتفاعل مع الإلكترونيات كأنها امتداد طبيعي له.
من التشتّت إلى
الاندماج.
يعكس سلوك قردة
محمية اليابان و"أدويا" نموذجين متناقضين للعقل البشري وتفاعله مع
تكنولوجيا المعلومات:
قرود المكاك تمثل العقلية المضطربة، السطحية، التي تستجيب للمؤثرات بلا وعي أو
فائدة.
بينما تقدم "أدويا" نموذجًا للعقلية المتزنة، القادرة على
استخدام التكنولوجيا كامتداد طبيعي لها، دون أن تستهلكها أو تشتتها.
التأمل التقني.
في زمن التشتت
والإلهاء، تتحكّم "العقلية المضطربة" في علاقتنا بالتكنولوجيا الحديثة،
فتبعثر تركيزنا وتضيّع أهدافنا.
ولا مفرّ من تغيير
سلوكنا لتفعيل "العقلية المتزنة" التي تتفاعل مع التكنولوجيا بحكمة
ووعي، لا كحالة استهلاكية.
فما أعظم
التكنولوجيا حين تُغذّي عقولنا، وتطوّر قدراتنا، وتضاعف إمكاناتنا.
وما أخطرها حين
تُشتّت طاقاتنا، وتُهدر أوقاتنا، وتُرهق عقولنا وأجسادنا.
لهذا، بدلًا من
التخبّط بين السلوكيات الرقمية والانغماس العشوائي، علينا أن نمارس الاندماج
والانسجام المثمر مع التقنية.
هذا الاندماج هو
ما يُطلق عليه: "التأمل التقني".
المبادئ الأربعة
للتأمل التقني.
1.
علاقتنا بالتقنيات الحديثة عميقة،
مركبة، أنيقة، وفريدة؛ تعكس هويتنا ومزايا عقولنا.
2.
الإنسان في هذا العصر أكثر عرضة للتشتت،
لكن ما زال يحمل مفاتيح النجاة بيده.
3.
التأمل التقني هو أحد أهم مفاتيح النجاة في عصر الإلهاء.
4.
يمكنك إعادة بناء وهيكلة عقلك بما يريح
بالك ويحقق طموحاتك.
المفتاح الأول:
التنفّس.
قبل أن تستأنف
القراءة، أمسك بهاتفك الذكي، افتح بريدك الإلكتروني، تأمل لحظة كيف تتنفس:
هل يخطفك أنفاسك
دون وعي وأنت تهمّ بفتح الرسائل؟ هل تشعر بتوتّر خفي؟
أطلقت الخبيرة
التكنولوجية "ليندا ستون" (المديرة التنفيذية السابقة في Apple وMicrosoft) على هذه الظاهرة اسم:
"الاختناق
الإلكتروني".
وترى أن توقف
التنفس عند تصفّح البريد الإلكتروني هو انعكاس لخوفنا الفطري من المجهول لأنك لا
تعرف ما ستقرأه من مهام مفاجئة أو مشكلات طارئة.
تلك الرسائل قد
تُحوّل يومك لكابوس، أو تلقي على كاهلك أعباءً جديدة…
لكن هذا هو أول
درس في التأمل التقني: الوعي اللحظي قبل الانغماس الرقمي.
من التشابك إلى
الانسياب.
يخوض الإنسان
صراعًا محتدمًا مع التشابكات والتعقيدات على اختلافها، لا سيما التشابكات
التكنولوجية الحديثة، والتي تبدو وكأنها انتصرت في النهاية، حيث تسببت العقلية
التشابكية في تطوير المهارات المعرفية والقدرات البدنية، وتحقيق الإنجازات التي
تعجز عن تحقيقها قدراتنا البدنية فقط.
يتم إنجاز المهمات
بشكل أكثر سرعة وإبداعًا وفاعلية، مع تنفيذ المهمات المتعددة، بما يجعلنا أعلى
أداءً وإنتاجية. هذه العقلية الجديدة تُضفي على خارطة الطاقة العقلية والجسدية
أبعادًا جديدة، تقلب الموازين، وتغيّر نظرة الإنسان إلى نفسه، وتضاعف ثقته بقدرته
على تغيير العالم. فنحن لا نبالغ حين نقول: "هاتفي الذكي هو عقلي الغيبي".
تُزيل العقلية
التشابكية الحدود التي تفصل بين العقل البشري والعقل الآلي، حيث تتضافر وتمتزج
قواهما معًا بشكل يحول دون الفصل بينهما. عبّر عن هذا التشابك أحد هواة ركوب
الدراجات عام 1904 حين قال: "تلك العلاقة المتناغمة تعجز عن وصفها الكلمات؛
حيث تمتزج روحك بالعجلة المتحرّكة، فتحلّق في الآفاق كالنسر، وتطرب أذناك لصوتها
كالشِعر، فتفقد الشعور بالزمان والمكان، وتتخلص من القيود، وتشعر بمذاق طَعم جديد
من حرية الأداء".
تلك العلاقة ليست
جديدة، بل أصبحت مألوفة في عصرنا هذا. فما تصفه هذه السطور من تواصل وفقدان للشعور
بالوقت والمكان هو تمامًا ما يُسميه الدكتور "ميهالي سيكزنتيميهالي": التدفق. فالقدرة على الدمج بين العقل والجسد، وبين ما يُحقق أهدافهما من
أجهزة وتقنيات – سواء كان ذلك بالعزف على آلة الكمان أو حتى قيادة طائرة مقاتلة –
يجني ثمرتها الإنسان.
مقومات التدفق
والانسياب.
يحتاج التدفق إلى
أربعة عناصر جوهرية. وفي هذا يقول "ميهالي": قد يُرهقنا التركيز على شيء
ما، ويجعلنا غير قادرين على التركيز على ما سواه، حيث يتلاشى الوعي الذاتي، ويُمحى
الشعور بالزمان والمكان.
والغريب حقًا أن
يجد بعض الناس متعتهم في هذا النوع من الخبرات، لدرجة تدفعهم إلى الانشغال بها
والتيه فيها والتفرغ لها دون غاية أو هدف، مهما ازدادت صعوبتها وخطورتها.
تشمل هذه الخبرات
تلك التي تشكل تحديًا، أو تفرض قواعد وقوانين صارمة، أو تتطلب ردود فعل فورية.
لهذا السبب، تلقى الألعاب على اختلاف أنواعها استحسان الجميع، وذلك لسهولة وصول
اللاعبين إلى مستوى التدفق والاندماج.
كذلك الأعمال التي
تهدف إلى تحقيق أهداف قصيرة المدى – مثل: كتابة خمس صفحات من ... أو تدوير هذه
العجلات بمعدل ... – تتطلب قدرًا من التركيز يجعلهم أكثر عرضة للاستغراق حتى
الوصول إلى مستوى الانسجام والتدفق.
وفي حين أن
الألعاب والمهمات البسيطة تُحقق قدرة أسرع على التدفق مقارنة بالأعمال الأكثر
صعوبة وتعقيدًا، إلا أن التركيز المبذول فيها لا يدوم طويلًا. وعلى النقيض، نجد
الأنشطة العظيمة والهادفة مثل ممارسة الطب والفنون والتفوق الرياضي تستغرق سنوات،
لكنها في المقابل تشكل تحديات أكبر واستغراقًا وتدفقًا أعمق.
وقد توصل علماء
النفس إلى أن الإنسان يكون أكثر عرضة لشعور الرضا والسعادة حين ينهمك في الأنشطة
والمهمات المعقدة، مقارنة بالنجاحات البسيطة والمتقطعة.
ويرون أن أفضل
لحظات حياتنا وأعظم تجاربنا ليست تلك المحفوفة بالاسترخاء والاستلقاء والرخاء،
وإنما تلك الأنشطة التي تنجم عن التضافر الطوعي بين جهود العقل والجسد، لإدراك
الأهداف وتحقيق الأحلام والآمال صعبة المنال.
نمط النفس.
يشكل التنفس المنتظم إحدى أهم الآليات الداعمة للاستثمار الفعّال
والممنهج للوسائل التكنولوجية الحديثة.
في كتاب "التأمل وفن الرماية" يشرح إيجن
هيرجل الدور الذي تلعبه الأنفاس المنتظمة في فن الرماية الياباني. فالرماية هي
تجسيد واقعي لمهارة التأمل والتفكير، أو هي بالأحرى – وكما يطلق عليها هيرجل – "الفن
العفوي" الذي
تنسجه العقول الصافية والأذهان الراقية.
فالأنفاس المنتظمة لا تقل أهمية عن اتخاذ الوضعية الصحيحة لإطلاق
السهم، فإن لم نقهر ظاهرة الاختناق الإلكتروني التي ذكرناها آنفًا، فلن
ندرك معنى التشابك الفعّال أبدًا.
ثانيًا: التبسيط.
تتسم المهمات والبرامج المتخمة بالتفاصيل بالتعقيد والتركيب، وكذلك
الحال مع الأعمال الإبداعية والفنية، وإن اختلفت أوجه ودرجات تعقيدها.
تساعدنا البرامج البسيطة في التفاعل مع هذا التعقيد، بإلغاء عوامل
التشتيت والإلهاء، ودرء العقبات والمعوقات، وإتاحة الوقت اللازم للتأمل وتبنّي
المهمات المتعددة بشكل مثمر وفعّال.
تعدد المهام بين الحقائق والأوهام.
يشير تعدد المهام إلى ممارسة أكثر من نشاط، وإنجاز أكثر من
مهمة في وقت واحد.
تلك الممارسة إما أن تكون أكثر إنتاجًا، وإلهامًا، وإرضاءً؛ أو أن
تتمخّض عن مزيد من التشتت، وتبديد الوقت والجهد، والشعور بالجزع؛ ونظرًا إلى شيوع
استخدام مصطلح تعدد المهام في عصرنا هذا – والذي عادةً ما يُستخدم في غير
موضعه – فمن الضروري أن نميّز بين كلا النوعين حتى لا نضل الطريق.
يُقصد بتعدد المهام الفعّال تلك النشاطات التي تأسر قلبك وعقلك،
وتستحضر جهدك وذهنك.
أو هو ما تصفه ثين وادئي، الأستاذة بجامعة ويتواترسراند في جنوب
إفريقيا، بـ "القدرة العقلية على مجاراة واستيعاب أكثر من حدث في آنٍ واحد".
كذلك يشمل تعدد المهام الفعّال التفكير المجرد، والقدرة على التنقل
الذهني السريع والسلس بين المهمات والعمليات المختلفة.
هذا ما يحدث حين تنهمك في أحد المشروعات المعقدة، حيث نستجمع قوانا،
وننظّم جهودنا، ونرتّب أفكارنا، وندير أدواتنا كي نحقق أهدافنا. فالأمر غاية في
التلقائية والعفوية.
قد تسوء الأمور في بعض الأحيان، إلا أن الأمر برمته قيد إرادتك.
فربما يصعب على الأم الجمع بين طهي ثلاثة أصناف من الطعام على الموقد
وداخل الفرن، وترتيب الأطفال حول طاولة الطعام في نفس الوقت، ولكنه ليس بالأمر
المحال.
كذلك قد يشقّ عليك تنظيم أفكارك بينما تطالع الكثير من الكتب داخل
مكتبة مكتظة بالمراجع والشاشات، إلا أن النتيجة النهائية ستكون مرضية وتستحق
العناء.
ومن ثمّ، يُحفّز هذا النوع من تعدد المهام على الاسترسال وانسياب
العمل بشكل فعّال.
تبدد المهام.
يختلف هذا النوع من تعدد المهام تمامًا عمّا يحدث حين نشتت تركيزنا
ونوزّع جهودنا بين أكثر من جهاز ومهمة في نفس الوقت.
فهناك فارق شاسع بين كتابة الواجب المدرسي أثناء الاستماع إلى
الموسيقى، وبين التنقل ما بين صفحات الإنترنت المتعددة، بينما تتحادث مع أصدقاء
"فيسبوك"، وتستمع إلى مقطوعة موسيقية على هاتفك.
فتلك الأنشطة المنفصلة والمتفرقة لا تصب في بوتقة واحدة، ولا تجتمع
حول هدف واحد، وإنما يستقل كل نشاط منها بذاته.
يُطلق على هذه الممارسة تبدّل المهام أو تبديد المهام – وليس
تعدد المهام – حيث يتأرجح العقل محوّلًا بؤرة التركيز ما بين مهمة وأخرى، ونظام
تشغيل وآخر.
فما الذي يشوب
عملية تبدّل المهام؟
فإلى جانب دحرها للمهارات الإبداعية والقدرات الإنتاجية، ودفعنا نحو الفوضى واللافاعلية، وتعريضنا للوهم وخداع الذات، يعاني العقل وينازع في خضم محاولاته ومساعيه لإدارة وتنظيم هذه الممارسات.
والآن، حاول تجربة
هذا التدريب البسيط:
1.
أولًا: عدّ من واحد إلى عشرة بأقصى سرعة
ممكنة.
2.
ثانيًا: انطق حروف الهجاء من الألف وحتى
الراء بنفس السرعة.
3.
ثالثًا: ادمج ما بين الأرقام والحروف
وعدّ: واحد - ألف، اثنان - باء، ثلاثة - تاء، وهكذا...
يتطلب إتمام
الخطوتين الأولى والثانية ثوانٍ معدودات، بينما تستغرق الخطوة الثالثة وحدها ضعف –
إن لم يكن ثلاثة أضعاف – الوقت المستغرق في الخطوتين الأولى والثانية مجتمعتين.
وذلك لأن التفكير
في ترتيب الحروف والأرقام معًا يقلل من سرعتك تلقائيًا، فتتضاعف الفترة الزمنية
التي تحتاجها العملية بأكملها.
هذا هو تبدّل
المهام في أبسط صوره.
يستهلك عقلك طاقة
مضاعفة وجهدًا هائلًا في كل مرة تنتقل فيها من مهمة إلى أخرى على حاسوبك الشخصي،
أو تتحول من تصفّح بريدك الإلكتروني مباشرة إلى المشاركة في اجتماع مع فريق العمل
عبر الإنترنت.
تلك الدقائق
القليلة من "اللاتركيز" تتحول – على مدار الأسبوع وبمرور الوقت – إلى
ساعات مهدرة وجهود مبعثرة.
فتزداد المهمات،
ليقابلها انخفاض في معدلات الإنتاج.
أي أن تبدّل
المهام يزيدك تشتتًا ويجعلك أكثر عرضة لارتكاب الأخطاء.
ولسوء الحظ، تعتبر
أجهزة الجوال هي المصدر الأول للإلهاء؛
فهي تشد انتباهك
وتعزلك عن كل ما حولك، أي أنها تستحوذ على ساحة التركيز، تاركة جزءًا ضئيلًا فقط
لإدارة المهام الأهم والأسمى، مما يقلّص من قدرتك على الازدهار والإبداع.
التركيز المبرمج.
في المرة القادمة
التي تستخدم فيها حاسوبك الشخصي، حمّل تطبيقين مهمين:
1.
Freedom – فريدم: وهو برنامج يمنعك من استخدام شبكة
الإنترنت لفترة زمنية تصل إلى ثماني ساعات متتالية.
2.
WriteRoom
– رايتروم (لمستخدمي أجهزة ماكنتوش): أحد برامج
الكتابة البسيطة، المصممة بشكل محفز للتركيز والتأمل وتحفيز أساليب الكتابة.
استخدم البرنامجين
لمدة لا تقل عن أسبوع، ثم لاحظ تقدمك في مجال الكتابة والقدرة على التركيز، مما
سيكشف لك الكثير عن قدراتك ومواهبك الدفينة.
من هنا تبرز أهمية
التفاعل مع التكنولوجيا بطريقة تأملية متأنية، والإقبال على التجارب
الجديدة، ودراسة تأثيرها على امتدادك العقلي، مع تطويرها وتنقيحها بما يدعم
مهاراتك الإبداعية وينمّي قدرتك على التركيز.
عن برنامج "Freedom".
يتميز برنامج Freedom بسهولة الاستخدام،
فبمجرد تشغيله،
يسألك عن عدد الدقائق التي تود أن تتحرر خلالها من الإنترنت.
اكتب الرقم الذي
يلائمك، وسينقطع اتصالك بالإنترنت على الفور، دون أدنى فرصة لاسترجاعه خلال الفترة
الزمنية المحددة مهما حاولت.
فإن أردت تصفح
بريدك الإلكتروني أو حسابك الشخصي على تويتر، فعليك بإغلاق الجهاز وإعادة تشغيله
من جديد.
وفي هذه الحالة،
لا بد أن تسأل نفسك:
هل أنا حقًا في
حاجة إلى ذلك؟
بالتأكيد ستجد ما
يثنيك عن القرار، ويلزمك بالاسترسال في العمل والاستمتاع بلحظات التحرر النادرة،
لأن هذا البرنامج
يكشف لنا كيف أن دقائق معدودة من التركيز تساوي ساعات طويلة من التشتت والتخبط.
عن برنامج "WriteRoom".
وكذلك الحال مع
برنامج WriteRoom، فبمجرد تشغيله، يستحوذ على الشاشة بأكملها،
فلا ترى سوى وميض أخضر على خلفية سوداء مخصصة للكتابة، ولن ترى بعدها شريط المهام،
أو خيارات تعديل الخطوط، أو شاشات المحادثات الشخصية،
أو حتى إشعارات
الرسائل الإلكترونية التي يدوي صوتها في الأرجاء.
ومع توقف كل هذه
الأنشطة، قد يغلق الجهاز تلقائيًا، إلا أن الوميض الأخضر يمنع ذلك ويضمن استمرار
عمل الجهاز.
ثالثًا: التأمل
التام.
يُعتبر التأمل أحد
أنماط الانسيابية والاسترسال العميق. قد تبدو الأهداف بسيطة في الظاهر، إلا أن
تنفيذها على أرض الواقع يشكّل تحديًا كبيرًا. من هنا تنبع أهمية التأمل في توسيع
النطاق الزمني بشكل لافت ومؤثر، ولذا فهو غاية في الأهمية مهما كان طريق الإنجاز
شاقًا وطويلًا. ويُعد التأمل من أفضل أشكال الانهماك المثمر، حيث يتوحد تركيزك حول
هدف ما، ويتأهب عقلك لحل المشكلات وتجاوز العقبات، فتتسم أجواء الحلول بالإلهام
والانسياب في الأرجاء.
لا جدال حول أهمية
التأمل والتدبر في التعاطي مع الملهيات والمشتتات التكنولوجية، لا سيّما لدى من
يمارسونه بشكل منتظم، أو يستخدمونه لأغراض علاجية وصحية. فقد شرع علماء النفس ما
بين فترتي السبعينيات والثمانينيات في تطبيق الممارسات التأملية كعلاج للأمراض
النفسية، وذلك من خلال تقنية "تقليص الضغوط العقلية"، التي تعتمد على
التأمل في المقام الأول للحد من تأثير التوتر المزمن. ومنذ ذلك الحين، امتزجت
الممارسات والأنشطة التأملية بالمجالات التي تتطلب قدرًا من الإبداع والتركيز
والقدرة على الإنجاز تحت الضغوط.
أثبتت الأبحاث
التي أُجريت على المرضى الذين خضعوا لتقنية "تقليص الضغوط العقلية" أن
الجانب الأمامي الأيسر من عقولهم قد شهد نشاطًا ملحوظًا خلال ثمانية أسابيع فقط من
التأمل، مما أدى إلى حالات مزاجية إيجابية ونظرة أكثر تفاؤلًا. كما شهدت الذاكرة
تحسنًا ونموًا ملحوظًا، ذلك أن التأمل يشمل تدبّر العقل والذات، ويتطلب تذكّر
واسترجاع الخبرات العقلية السابقة. ومن ثم، يتمتع المتأملون بقدرة هائلة على
التركيز دون جهد يُذكر، على عكس غيرهم من الناس. والأهم من ذلك هو أهليتهم لتنمية
إدراكهم الحسي، ليميزوا بين المثيرات المختلفة، وتنقيحها، واختيار الأفضل والأجدر
منها طبقًا للحاجة والأهمية.
رابعًا: إعادة
البرمجة.
تؤثر معتقداتنا
ونظرتنا إلى أنفسنا وإلى الآخرين في سلوكياتنا وإنجازاتنا. عجبًا إذا أن تجد
الطلاب الذين يرون النجاح نتيجة للموهبة المجردة، يتعاملون مع الفشل باعتباره
انعكاسًا لقدراتهم المحدودة بالفطرة. ولكن، بعد تعرض هؤلاء الطلاب إلى الأبحاث
التي تتناول الذكاء باعتباره سمة إنسانية مرنة - وليست راكدة ولا جامدة - وتؤكد
على الدور الذي تلعبه الممارسة في تقييم مستويات النجاح، وليس الموهبة الفطرية
فقط، اتسعت آفاقهم لتتعاطى مع الفشل بروح التحدي والإصرار، عوضًا عن التقهقر
والانهزام. ومن ثم، تضاعفت قدرتهم على تحقيق الإنجازات والنجاحات. ورغم ذلك، لا
تزال بعض العقول رافضة للتسليم بهذه الحقائق!
يقودنا ذلك إلى الصيغة التي تبرمجت عليها عقولنا بفضل تفاعلنا مع تكنولوجيا المعلومات، فقد غيرت هذه التكنولوجيا الموازين لتغيير استيعابنا لمفهوم الذاكرة والذكاء البشري، لينتهي بنا الحال محيدين للمهارات "الميكانيكية" كالدقة، والسرعة، والإنتاجية عن المهارات "الإبداعية" كالإبداع، والفعالية، والمشاركة، والتأمل.
وبالمثل، فإن
إيماننا بأن الذكاء سمة فطرية راكدة وليست مرنة ومتحركة، وبأن قدراتنا ما هي إلا
امتداد وانعكاس لإمكانات الأجهزة الإلكترونية، يعكس طريقة تفكيرنا. بل إن استخدام
الأجهزة بشكل مفرط قد يؤثر فينا ويغير من توجهاتنا، حيث يؤدي ذلك إلى حالة من
الركود العقلي، مع التركيز على المهارات "الميكانيكية" مثل الدقة
والسرعة والإنتاج، بعيدًا عن المهارات "الإبداعية" مثل التفكير النقدي،
والفعالية، والمشاركة، والتأمل.
هذا يؤدي إلى حالة
من الركود العقلي، التي تجعلنا نفضل التفاعل مع التكنولوجيا على حساب تنمية
مهاراتنا الإبداعية. إذا اعترفنا بتأثير البرمجة الذهنية على طريقة تفكيرنا، فإن
ذلك قد يساعدنا على الفصل بين الإمكانات البشرية والرقمية، وتوحيدهما بشكل موضوعي،
مع فهم حدود كل منهما. إن استيعاب العلاقة التكاملية بين العقل البشري
والتكنولوجيا قد يحول دون عقد المقارنات غير العادلة بينهما، ويحثنا على ممارسة كل
منهما بطرق تكمل بعضها البعض. وهذا سيمكننا من الحصول على أفضل النتائج والاستمتاع
بعقول متفتحة لا مشغولة ومشتتة، وبالتأكيد لا تكون هذه التجارب بديلاً للقدرات
البشرية، بل تعمل على مضاعفتها وتحقيق الرضا بها.
خامسًا: التفعيل.
مارس أنشطتك
الشبكية المعتادة في الأيام المقبلة مع إيلاء اهتمام خاص لتفاعلك مع البريد
الإلكتروني. ابدأ بحصر التفاعلات القائمة من خلال إحصاء عدد مرات تصفحك لبريدك
الشخصي على مدار اليوم، وعدد التنبيهات التي تتلقاها عند استلام رسائل جديدة. تتبع
أماكن تصفحك للبريد سواء في العمل، أو في السيارة، أو في المطبخ، أو خلال تبادل
المحادثات. ثم احسب الوقت الكلي الذي تستغرقه في قراءة وكتابة الرسائل
الإلكترونية. علينا جميعًا أن نتغاضى عن السعي وراء إتقان فن كتابة الرسائل
الصحيحة والمختصرة، وعن سبل تشذيب البريد الإلكتروني وتطهيره من الزوائد
والمهملات. فالمرسل لا تعوزه الردود السريعة والمنمقة، وإنما الردود المؤثرة.
ومن ثم، فلا بد أن لا يتشتت تركيزك بين جميع الرسائل التي تستقبلها
على مدار اليوم، بل تكرسه للمهم منها فقط؛ أي الرسائل التي تتطلب تجاوبًا فعالًا
أو التي تحتوي على معلومات قيمة. كم عدد هذه الرسائل القيمة مقارنة بالرسائل
الضالة والمضللة؟ يساعدك اكتشاف هذه النسبة في تقدير الوقت اللازم للانتهاء من
البريد الإلكتروني. وأخيرًا، لاحظ معدل التوتر والحالة النفسية والعاطفية التي
تغمرك قبل وبعد تصفح الرسائل. هل هناك اختلاف بين الحالتين؟ وهل هذا الاختلاف
إيجابي أم سلبي؟
بعد انقضاء أسبوع من متابعة آلية استخدامك للبريد الإلكتروني وملاحظة
التغييرات الشعورية المصاحبة له، حان الوقت لتفعيل واستثمار المعلومات التي توصلت
إليها. هل عدد الرسائل التي تتلقاها مرتفع نسبيًا؟ دعنا نتعلم كيف يمكننا أن نحد
منها.
ابدأ أولًا بالبيانات النفسية والشعورية: هل هناك وقت معين خلال اليوم تحبذ خلاله تصفح رسائلك الإلكترونية؟ إن كانت إجابتك بنعم، فالتزم بهذا الوقت لبضعة أيام. اجمع المعلومات حول عدد مرات التصفح، والوقت المستغرق في قراءة الرسائل، وعدد الرسائل الجديرة بوقتك واهتمامك، والحالة الشعورية المرتبطة بها، وقارن النتائج الجديدة بالتي توصلت إليها مسبقًا.
إن كان تقليص الوقت المستغرق في تصفح البريد الإلكتروني هو الخيار
الأمثل بالنسبة إليك، حدد موعدين ثابتين لتمارس هذا النشاط على مدار اليوم باستخدام
جهاز واحد فقط.
تتضمن إعادة برمجة ممارساتك الإلكترونية مجموعة من الملاحظات والتجارب
التي تتمخض في النهاية عن نتائج مرضية. الأمر يصب أولًا وأخيرًا في توسيع أفقك
وتحرير عقلك. تعلم كيف تركز على أهدافك السامية، وكيف تستثمر الوسائل التكنولوجية
المتاحة، ومتى تحتاج إلى استبدال تلك الوسائل بغيرها. بهذه الطريقة فقط تستطيع
تطوير عقليتك المتمددة، لتخرج أفضل ما لديك، وتتقن فن الانهماك المثمر.
القراءة أم التصفح؟
أُجريت دراسة على بعض القراء حول أسس اختيارهم لوسائل المعرفة
المكتوبة أو الرقمية، والسبب وراء اختيار كل منها. اتفق كثيرون على أن الإنترنت هو
مصدر المعلومات والأخبار ذو الطبيعة المتغيرة والمتقلبة طوال الوقت، والذي يتمتع
بالكثير من عناصر الإلهاء والتشتيت. ومن ثم، يسهل أن يضل المتصفح الطريق بين هذا
وذاك. ولم يكن ذلك دفاعًا عن المعرفة المكتوبة بدافع الميراث الثقافي أو الحضاري،
وإنما لطبيعتها التي تدعم التركيز الجاد والالتزام المتعمق.
تُشكّل الكتب وغيرها من وسائل المعرفة المطبوعة مصدرًا للقراءة
والاطلاع بمنأى عن الملهيات والمشتتات التي تكتظ بها صفحات الإنترنت. كما أن
الأنشطة البدنية المرتبطة بممارسة فعل القراءة، من تخطيط وتدوين الملاحظات
الجانبية، والانتقال من كتاب إلى آخر، تضفي على العملية نوعًا من المتعة
والالتزام، أي بالأحرى الانهماك المثمر.
على الجانب الآخر، تتسم أنماط القراءة الرقمية بطبيعتها المرنة وسهولة نقل مصادرها، ولهذا السبب يحبذها كثيرون من المسافرين والراغبين في اقتناء أكبر عدد من الكتب والروايات بأقل حجم ووزن ومساحة. أما القراءة الموجهة والهادفة إلى البحث عن معلومة بعينها، أو المطالعة السطحية لموضوع ما، فعادة ما تكون رقمية أو سطحية.
وحدهم القراء الجادون والمتمرسون يدركون الطبيعة المتفردة لنمطي
القراءة الرقمية والمطبوعة. فلكل منهما مزاياه وعيوبه وظروفه، ولذلك يجب أن تتم
المفاضلة بينهما بموضوعية، وأن يتم تفضيل إحداهما واختيارها بعيدًا عن الجوانب
الشكلية والعشوائية.
سادسًا: التركيز.
تغيرت مفاهيمنا عن الإبداع والابتكار حتى اعتقدنا أنه يمكننا تحقيقهما
من خلال الخبرة وقراءة النصائح، أو تناول المزيد من الكافيين، أو بعض الأدوية
لمضاعفة الجهد والتركيز، أو بشرب أشهر أنواع مشروبات الطاقة. ولكن الأمر أبسط من
ذلك، فقليل من التنزه قد يفي بالغرض.
وقد نشأت هذه الفكرة التي تربط ما بين التنزه والإبداع منذ قديم
العصور لتؤكد مرة أخرى على أهمية التدبر والتفكر. ولا عجب أن يجمع على ذلك
الفلاسفة أمثال أمبروز وجيروم وأوغسطين ليؤكدوا المثل اللاتيني القائل: "قليل
من التنزه قد يحل الأمر برمته".
يحفز التنزه التركيز والتأمل، ومن ثم الإبداع، وذلك لما يوفره للعقل من مساحة ذهنية كافية وصافية لتدبر الأمور بعيدًا عن ملهيات الحياة من كتابة وقراءة وحسابات متنوعة ومرهقة للذهن. فالتنزه هو "الحالة التي يمتزج فيها كل من العقل والروح والجسد معًا". فبينما يتمايل الجسد وتستقبل العين مشاهد جديدة أو حتى معتادة، يظل العقل متيقظًا وموجهًا نحو إيجاد حلول للمشكلات المعقدة والمؤرقة. فإذا كنت تحاول الخروج من مأزق ما، فقد يستحوذ التنزه في مكان مألوف على جزء من تفكيرك - وليس كله - بشكل يتيح لك التأمل ودراسة الموقف واختبار الحلول والخروج بالنتائج.
اعزل نفسك ولو
ليوم واحد عن كل الأجهزة والأسلاك المقيدة لحياتك، وتجاهل تنبيهات الرسائل وتحديات
الحالات المزاجية. ابتعد عن الفيسبوك قليلاً، وضع هاتفك الجوال في وضع صامت. ويا
حبذا لو نحيته بعيدًا، ثم ابعد حاسوبك الشخصي وغيره من الأجهزة التي تستحوذ على
يومك وحياتك بأكملها. تصفح بريدك الإلكتروني لأربع وعشرين ساعة فقط، واستخدام شبكة
الإنترنت بشكل عام لأي سبب كان. باختصار: ابتعد عن كل الشاشات وابحث عن كتاب بدأت
فيه منذ أسبوع أو حتى عام لتستأنف قراءته. تواصل مع أصدقائك، ليس من خلال تويتر أو
الفيسبوك، افعل ما يحلو لك ويداعب طبيعتك البشرية، لا الميكانيكية!
قد يبدو الالتزام
بذلك صعبًا في بادئ الأمر، فلا تقلق إذا هرعت في صباح اليوم التالي إلى حاسوبك
الخاص لتلحق بما فاتك، فالأمر طبيعي للغاية، ولكن واصل وكرر المحاولة الأسبوع
المقبل، وسوف تتعود على الأمر كلما ازدادت محاولاتك.
ستلاحظ مع الوقت
بعض التغيرات وتستشعر بعض التقلبات. والأهم من كل ذلك هو أن تدرك كيف أن موازين
العالم لن تنقلب وأن نواميسه لن تتبدل إذا ما ابتعدت قليلاً عن شاشاتك وحساباتك
واتصالاتك. هذا طبعًا إن لم تكن صحفيًا، أو طبيبًا، أو متداولًا في البورصة. قد
تشعر ببعض الاضطراب الداخلي في بادئ الأمر نتيجة للتخلص التدريجي من ضغوط العمل،
والحياة الشخصية، والمشتتات الإلكترونية، ذلك السكون الذي يضعه الخبراء تحت قائمة
الملل والضجر. تستطيع أن تملأه بما يحلو لك، وأنت تعيد إلى عقلك توازنه، وتستعيد
تركيزك وانتباهك، وتوازن ما بين غريزتك البشرية وفطرتك الإنسانية، وبين حياتك
الرقمية.
تشق الطريق، وسوف تجرب وتنجح في ذلك. فأهلاً بك في عالم التدفق والانسياب والانسجام المثمر.
لقد قطعنا معًا رحلة عبر صفحات هذا الكتاب، حيث تعلمنا أن سر الإنجاز
الحقيقي لا يكمن في كثرة الجهد أو الضغط المستمر، بل في القدرة على التركيز
العميق، والتأمل، وإعادة البرمجة الذهنية التي تؤهلنا للتعامل مع التحديات بشكل
أذكى وأكثر فاعلية. كما اكتشفنا أن التقنيات الحديثة، رغم فائدتها، لا يجب أن
تسيطر على حياتنا أو تضعف قدرتنا على التفكير المستقل والإبداع.
الخطوات التي تم تناولها في هذا الكتاب هي بمثابة دعوة للعودة إلى
أنفسنا، وإلى طاقتنا البشرية الكامنة. إذا اتبعت هذه الخطوات، ستكتشف كيف يمكنك أن
تتفاعل مع الحياة بشكل أكثر وعياً وتركيزاً. وفي النهاية، لن تحقق النجاح الحقيقي
إلا عندما تعلم كيف توازن بين عالمك الرقمي وحياتك الإنسانية، وتحقق التناغم
بينهما.
الآن، حان الوقت لتطبيق ما تعلمته، ولتطلق العنان لإمكاناتك الكامنة. الطريق أمامك مفتوح، والعالم يحتاج إلى إبداعك. فلتبدأ الآن!
تعليقات
إرسال تعليق